تفسير
القرطبى
للاية ثلاثة وعشرون من سورة النور
قوله تعالى
: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من
قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن
كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون
نزلت في أبي بكر
،وعمر -
رضي الله عنهما - ؛
قالهمالك .
وقيل : إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - شكا جهد مكافحة العدو ، وما
كانوافيه من الخوف على أنفسهم ، وأنهم لا يضعون أسلحتهم
؛فنزلت الآية .
وقال أبو العالية :
مكث رسول - صلى الله عليه
وسلم - بمكةعشر سنين بعدما أوحي إليه خائفا
هو وأصحابه ، يدعون إلىالله سرا وجهرا ، ثم أمر بالهجرة
إلى المدينة ،وكانوا فيها خائفين
يصبحونويمسون في السلاح . فقال رجل : يا رسول الله ، أما
يأتي علينا يوم نأمن فيهونضع السلاح ؟ فقال : عليه
السلام - : لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس
الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليسعليه
حديدة . ونزلت هذه الآية ، وأظهر الله
نبيه على جزيرة العربفوضعوا السلاح وأمنوا .
قالالنحاس :
فكان في هذه
الآية دلالة على نبوة
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم-
؛
لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد .
قال الضحاك في
كتاب النقاش :
هذه تتضمن خلافة أبي بكر
،وعمر ،وعثمان
،وعلي ؛لأنهم أهل الإيمان وعملوا
الصالحات . وقد قال رسول الله -
صلى الله عليه
وسلم - :الخلافة بعدي
ثلاثون. وإلىهذا القول
ذهبابن العربي
في أحكامه ،[ ص:276 ]
واختارهوقال : قال علماؤنا هذه
الآية دليل على خلافة الخلفاء
الأربعة -رضي الله عنهم - ، وأن
الله استخلفهم ورضي أمانتهم ، وكانوا على الدين الذي ارتضى
لهم ، لأنهم لميتقد مهم أحد في الفضيلة إلى
يومناهذا ، فاستقر الأمر لهم ، وقاموا بسياسة المسلمين ،
وذبوا عن حوزة الدين؛ فنفذ الوعد فيهم ، وإذا لم
يكنهذا الوعد لهم نجز ، وفيهم نفذ ، وعليهم ورد ، ففيمن
يكون إذا ، وليسبعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ،
ولايكون فيما بعده . - رضي الله عنهم - . وحكى هذا
القولالقشيري ،عنابنعباس .
واحتجوا بما رواهسفينة مولى رسول الله -
صلىالله عليه وسلم - قال : سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول :الخلافة
بعدي ثلاثون سنة ثم تكون
ملكا. قال سفينة :
أمسك عليك :
خلافة أبي بكرسنتين ،
وخلافة عمرعشرا ،
وخلافةعثمان ثنتي عشرة سنة ،
وخلافةعلي ستا .
وقال قوم : هذا وعد لجميع الأمة
فيملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ؛ كما قال : عليه
الصلاة والسلام- : زويت لي
الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها.واختار هذا
القول ابن عطية في تفسيره حيث قال :
والصحيحفي الآية أنها في استخلاف الجمهور ، واستخلافهم هو أن
يملكهم البلادويجعلهم أهلها ؛ كالذي جرى
في الشام ،والعراق
،وخراسان ،والمغرب .
قال ابن العربي :
قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة
الدعوةوعموم الشريعة ، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله
؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة ، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة
الكريمة إلا منتقدم من الخلفاء . ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه :
فإنقيل هذا الأمر لا يصح إلا
فيأبي بكروحده ،
فأماعمروعثمان فقتلا غيلة
،وعليقد نوزع في الخلافة . قلنا : ليس
في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان ، وأما علي فلم يكن نزاله في
الحرب مذهبا للأمن ، وليس من شرط الأمن رفع الحرب
إنماشرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره ، لا كما كان أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -
بمكة .
ثم قال في آخر كلامه : وحقيقة الحال أنهم كانوا
مقهور ينفصاروا قاهرين ، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين ؛ فهذا
نهاية الأمن والعز . قلت : هذه الحال لم تختص
بالخلفاءالأربعة - رضي الله عنهم - حتى يخصوا بها من
عموم[ص:
277]الآية ، بل شاركهم في ذلك
جميع المهاجرين بل وغيرهم . ألا ترى إلى
إغزاء قريش المسلمين
فيأحدوغيرها
وخاصةالخندق ،حتى أخبر الله تعالى
عن جميعهم فقال : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله
الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا .
ثم إن الله رد الكافرين لم
ينالواخيرا ، وأمن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم
، وهو المراد بقوله: ليستخلفنهم في الأرض
. وقوله : كما استخلف الذين من قبلهم يعنيبني إسرائيل
،إذ أهلك الله
الجبابرةبمصر ،وأورثهم أرضهم وديارهم
فقال : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها
. وهكذاكان الصحابة مستضعفين خائفين ، ثم
إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم ، فصح أنالآية
عامةلأمةمحمد -
صلى الله عليه وسلم - غير مخصوصة ؛ إذ التخصيص لا
يكونإلا بخبر ممن يجب التسليم ، ومن الأصل
المعلوم التمسك بالعموم . وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن
أنرسولالله - صلى الله عليه وسلم - لما
قال أصحابه : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟
فقال : عليه
السلام - : لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس
الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه
حديدة . وقال :
صلى الله عليه
وسلم- : والله ليتمن الله هذا الأمر ، حتى
يسير الراكب من صنعاءإلى حضرموت لا يخاف إلا الله ،
والذئبعلى غنمه ولكنكم
تستعجلون.
خرجه مسلمفي صحيحه ؛ فكان كما أخبر - صلى
الله عليه وسلم - . فالآية معجزة النبوة ؛ لأنها
إخبار عما سيكون فكان .
قوله تعالى :
ليستخلفنهم في الأرض
فيه قولان :
أحدهما : يعني
أرضمكة ؛لأن المهاجرين سألوا
الله تعالى ذلك فوعدوا كما
وعدتبنو إسرائيل ؛قال
معناهالنقاش .
الثاني : بلاد العرب والعجم .
قالابن العربي :
وهو الصحيح ؛ لأن
أرضمكة محرمة
على المهاجرين ،قال النبي - صلى الله عليه
وسلم - : لكن
البائسسعد بنخولة. يرثي له رسول الله - صلى الله
عليهوسلم - أن ماتبمكة.
وقالفي الصحيح
أيضا :
يمكث المهاجر بمكةبعد قضاء نسكه
ثلاثا.واللام[ص:278 ]
في ليستخلفنهم جواب قسم مضمر ؛ لأن الوعد قول ،
مجازها : قال الله للذين آمنوا وعملوا
الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض
فيجعلهم ملوكها
وسكانها . كما استخلف الذين من قبلهم يعنيبني إسرائيل
،أهلك الجبابرةبمصروالشاموأورثهم أرضهم وديارهم . وقراءة
العامة كما استخلف
بفتح التاء واللام
؛لقوله : ( وعد ) . وقوله : ( ليستخلفنهم ) .
وقرأعيسى بن عمر ،وأبو بكر
،والمفضل ،عنعاصم (
استخلف ) بضم التاء وكسر اللام على الفعل
المجهول . وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهوالإسلام ؛
كما قال تعالى : ورضيت لكم الإسلام دينا وقد تقدم . وروىسليم بن
عامر ، عنالمقداد بن
الأسودقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول :
ما
على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز
، أو ذل ذليل أما بعزهمفيجعلهم من أهلها ، وأما
بذلهمفيدينون بها.ذكرها لماوردي
حجة لمن قال : إن
المرادبالأرض بلاد العرب والعجم ؛ وهو القول الثاني : على ما
تقدم آنفا . ( وليبدلنهم )
قرأابنمحيصن
،وابن كثير ،ويعقوب
،وأبو بكربالتخفيف ؛ من أبدل ، وهي
قراءةالحسن ،واختيارأبيحاتم.
الباقون بالتشديد ؛ من بدل ، وهي
اختيارأبي عبيد ؛لأنها
أكثر ما في القرآن ، قال الله
تعالى : لا تبديل لكلمات الله . وقال : وإذا بدلنا آية
ونحوه ، وهما
لغتان . قالالنحاس:
وحكىمحمد بن الجهم
،عنالفراءقال :
قرأعاصم ،والأعمش
وليبدلنهم مشددة ،
وهذاغلط على عاصم ؛ وقد ذكر بعده غلطا أشد منه ، وهو أنه
حكى عن سائر الناس التخفيف . قالا لنحاس:
وزعمأحمد بن
يحيىأن بين التثقيل
والتخفيف فرقا ، وأنه يقال : بدلته أي غيرته ، وأبدلته أزلته
وجعلت غيره . قالالنحاس:
وهذاالقول صحيح ؛ كما تقول : أبدل لي
هذا الدرهم ، أي أزله وأعطني غيره . وتقول :
قدبدلت بعدنا ، أي غيرت ؛ غير أنه
قديستعمل أحدهما موضع الآخر ؛ والذي ذكره أكثر . وقد مضى
هذا في ( النساء ) والحمدلله ، وذكرنا في سورة (
إبراهيم ) الدليل من السنة على أن بدل
معناه[ ص: 279 ]
إزالة العين ؛ فتأمله هناك . وقرئ ( عسى ربنا أن
يبدلنا ) مخففا ومثقلا . ( يعبدونني ) هو
في موضع الحال ؛أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص . ويجوز أن
يكون استئنافا على طريق الثناء
عليهم. لا يشركون بي شيئا
فيه أربعة أقوال :
لايعبدون إلها غيري ؛
حكاها لنقاش.
لا يراءون بعبادتي أحدا . لا يخافون غيري ؛
قالهابن عباس.
لايحبون غيري ؛
قالهم جاهد. ومن
كفر بعد ذلك أي بهذه النعم .
والمرادكفران النعمة لأنه قال
تعالى فأولئك هم الفاسقون
والكافر بالله فاسق
بعدهذا الإنعام
وقبله